الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)} قوله تعالى: {وإن يمسسك الله بضر} يعني وإن يصبك الله بشدة وبلاء {فلا كاشف له} يعني لذلك الضر الي أنزل بك {إلا هو} لا غيره {وإن يردك بخير} يعني بسعة ورخاء {فلا راد لفضله} يعين فلا دافع لرزقه {يصيب به} يعني: بكل واحد من الضر والخير {من يشاء من عباده} قيل إن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأوثان وبين أنها لا تقدر على نفع ولا ضر بين تعالى أنه هو القادر على ذلك كله، وأن جميع الكائنات محتاجة إليه وجميع الممكنات مستندة إليه لأنه هو القادر على كل شيء وأنه ذو الجود والكرم والرحمة ولهذا المعنى ختم الآية بقوله {وهو الغفور الرحيم} وفي الآية لطيفة أخرى وهي أن الله سبحانه وتعالى رجح جانب الخير على جانب الشر وذلك أنه تعالى لما ذكر إمساس الضر بين أنه لا كاشف له إلا هو وذلك يدل على أنه سبحانه وتعالى يزيل جميع المضار ويكشفها لأن الاستثناء من النفي إثبات. ولما ذكر الخير قال فيه فلا راد لفضله يعني أن جميع الخيرات منه فلا يقدر أحد على ردها لأنه هو الذي يفيض جميع الخيرات على عباده وعضده بقوله وهو الغفور يعني الساتر لذنوب عباده الرحيم يعني بهم. قوله سبحانه وتعالى: {قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم} يعني القرآن والإسلام وقيل الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم جاء بالحق من الله عز وجل {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه} لأن نفع ذلك يرجع إليه {ومن ضل فإنما يضل عليها} أي على نفسه لأن وباله راجع إليه فمن حكم الله له بالاهتداء في الأزل انتفع ومن حكم عليه بالضلالة ضل ولم ينتفع بشيء أبداً {وما أنا عليكم بوكيل} يعني وما أنا عليكم بحفيظ أحفظ عليكم أعمالكم وقال ابن عباس: هذه الآية منسوخة بآية السيف {واتبع ما يوحى إليك} يعني الأمر الذي يوحيه الله إليك يا محمد {واصبر} يعني على أذى من خالفك من كفار مكة وهم قومك {حتى يحكم الله} يعني ينصرك عليهم بإظهار دينك {وهو خير الحاكمين} يعني أنه سبحانه وتعالى حكم بنصر نبيه وإظهار دينه وبقتل المشركين وأخذ الجزية من أهل الكتاب، وفيه ذلهم وصغارهم والله تعالى أعلم بمراده وأسرار كتابه.
{الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)} قوله عز وجل: {الر كتاب أحكمت آياته} قال ابن عباس: لم ينسخها كتاب كما نسخت هي الكتب والشرائع {ثم فصلت} يعني بينت وقال الحسن: أحكمت آياته بالآمر والنهي وفصلت بالثواب والعقاب وفي رواية عنه بالعكس، قال: أحكمت بالثواب والعقاب وفصلت بالأمر والنهي، وقال قتادة: أحكمها الله من الباطل ثم فصلها بعلمه فبين حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته فيها وقيل: أحكمها الله فليس فيها تناقض ثم فصلها وبينها وقيل معناه نظمت آياته نظماً رصيناً محكماً بحيث لا يقع فيه نقض ولا خلل كالبناء المحكم الذي ليس فيه خلل ثم فصلت آياته سورة سورة وقيل إن آيات هذا الكتاب دالة على التوحيد وصحة النبوة والمعاد وأحوال القيامة وكل ذلك لا يدخله النسخ ثم فصلت بدلائل الأحكام والمواعظ والقصص والإخبار عن المغيبات، وقال مجاهد: فصلت بمعنى فسرت وثم في قوله ثم فصلت ليست هي للتراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل فإن قلت كيف عم الآيات هنا بالأحكام وخص بعضها في قوله منه آيات محكمات. قلت: إن الإحكام الذي عم به هنا غير الذي خص به هناك فمعنى الإحكام العام هنا أنه لا يتطرق إلى آياته التناقض والفساد كأحكام البناء فإن هذا الكتاب نسخ جميع الكتب المتقدمة عليه والمراد بالإحكام الخاص المذكور في قوله منه آيات محكمات أن بعض آياته منسوخة نسخها بآيات منه أيضاً لم ينسخها غيره وقيل أحكمت آياته أي معظم آياته محكمة وإن كان قد دخل النسخ على البعض فأجرى الكل على البعض لأن الحكم للغالب وإجراء الكل على البعض مستعمل في كلامهم تقول أكلت طعام زيد وإنما أكلت بعضه. وقوله تعالى: {من لدن حكيم} يعني أحكمت آيات الكتاب من عند حكيم في جميع أفعاله {خبير} يعني بأحوال عباده وما يصلحهم.
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)} {ألا تعبدوا إلا الله} هذا مفعول له معناه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله والمراد بالعبادة التوحيد وخلع الأنداد والأصنام وما كانوا يعبدون والرجوع إلى الله تعالى وإلى عبادته والدخول في دين الإسلام {إنني لكم منه} أي: قل لهم يا محمد إنني لكم من عند الله {نذير} ينذركم عقابه إن ثبتم على كفركم ولم ترجعوا عنه {وبشير} يعني وأبشر بالثواب الجزيل لمن آمن بالله ورسوله وأطاع وأخلص العمل لله وحده {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} اختلفوا في بيان الفرق بين هذين المرتبتين فقيل معناه اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم ثم ارجعوا إليه لأن الاستغفار هو طلب الغفر وهو الستر والتوبة الرجوع عما كان فيه من شرك أو معصية إلى خلاف ذلك فلهذا السبب قدم الاستغفار على التوبة وقيل معناه استغفروا ربكم لسالف ذنوبكم ثم توبوا إليه في المستقبل وقال الفراء: ثم هنا بمعنى الواو لأن الاستغفار والتوبة بمعنى واحد فذكرهما للتأكيد {يمتعكم متاعاً حسناً} يعني إنكم إذا فعلتم ما أمرتم به من الاستغفار والتوبة وأخلصتم العبادة لله عز وجل بسط عليكم من الدنيا وأسباب الرزق ما تعيشون به في أمن وسعة وخير، قال بعضهم: المتاع الحسن هو الرضا بالميسور والصبر على المقدور {إلى أجل مسمى} يعني يمتعكم متاعاً حسناً إلى حين الموت ووقت انقضاء آجالكم. فإن قلت قد ورد في الحديث {إن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} وقد يضيق على الرجل في بعض أوقاته حتى لا يجد ما ينفقه على نفسه وعياله فيكف الجمع مبين هذا وبين قوله سبحانه وتعالى يمتعكم متاعاً حسناً إلى أجل مسمى. قلت أما قوله صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن» فهو بالنسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من الثواب الجزيل والنعيم المقيم فإنه في سجن في الدنيا حتى يفضي إلى ذلك المعد له وأما كون الدنيا جنة الكافر فهو النسبة إلى ما أعد الله له في الآخرة من العذاب الأليم الدائم الذي لا ينقطع فهو في الدنيا في جنة حتى يفضي إلى ما أعد الله له في الآخرة وأما ما يضيق على الرجل المؤمن في بعض الأوقات فإنما ذلك لرفع الدرجات وتكفير السيئات وبيان الصبر عند المصيبات فعلى هذا يكون المؤمن في جميع أحواله في عيشة حسنة لأنه راض عن الله في جميع أحواله. وقوله سبحانه وتعالى: {ويؤت كل ذي فضل فضله} أي ويعط كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة، قال أبو العالية: من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة لأن الدرجات تكون على قدر الأعمال، وقال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة ومن زادت سيئاته دخل النار ومن استوت حسناته وسيئاته كان من الأعراف ثم يدخلون الجنة. وقال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات فإن عوقب بالسيئة التي عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ثم يقول ابن مسعود: هلك من غلبت آحاده أعشاره وقيل معنى الآية من عمل لله وفقه الله في المستقبل لطاعته {وإن تولوا} يعني وإن أعرضوا عما جئتم به من الهدى {فإني أخاف عليكم} أي: فقل لهم يا محمد إني أخاف عليكم {عذاب يوم كبير} يعني: عذاب النار في الآخرة {إلى الله مرجعكم} يعني في الآخرة فيثيب المحسن على إحسانه ويعاقب المسيء على إساءته {وهو على كل شيء قدير} يعني من إيصال الرزق إليكم في الدنيا وثوابكم وعقابكم في الآخرة قوله سبحانه وتعالى: {ألا إنهم يثنون صدورهم} قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق وكان رجلاً حلو الكلام حلو المنظر وكان يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يجب وينطوي بقلبه على ما يكره فنزلت ألا إنهم يثنون صدورهم يعني يخفون ما في صدورهم من الشحناء والعداوة من ثنيت الثوب إذا طويته. وقال عبد الله بن شداد بن الهاد: نزلت في بعض المنافقين كان إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كي لا يراه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة: كانوا يحنون صدورهم كي لا يسمعوا كتاب الله تعالى ولا ذكره وقيل كان الرجل من الكفار يدخل بيته ويرخي ستره ويحني ظهره ويتغشى بثوبه ويقول هل يعلم الله ما في قلبي، وقال السدي: يثنون صدورهم أي يعرضون بقلوبهم من قولهم ثنيت عناني {ليستخفوا منه} يعني من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد من الله عز وجل إن استطاعوا {ألا حين يستغشون ثيابهم} يعني يغطون رؤوسهم بثيابهم {يعلم ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور} ومعنى الآية على ما قاله الأزهري: إن الذين أضمروا عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخفى علينا حالهم في كل حال وقد نقل عن ابن عباس غير هذا التفسير وهو ما أخرجه البخاري في إفراده عن محمد بن عياش بن جعفر المخزومي أنه سمع ابن عباس يقرأ: ألا إنهم يثنون صدورهم، قال: فسألته عنها فقال كل أناس يستحيون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء.
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)} وقوله سبحانه وتعالى: {وما من دابة في الأرض} الدابة اسم لكل حيوان دب على وجه الأرض وأطلق لفظ الدابة على كل ذي أربع من الحيوان على سبيل العرف والمراد منه الإطلاق فيدخل الآدمي وغيره من جميع الحيوانات {إلا على الله رزقها} يعني هو المتكفل برزقها فضلاً منه لا على سبيل الوجوب فهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق وقيل إن لفظة على بمعنى أي من الله رزقها وقال مجاهد ما جاءها من رزق فمن الله وربما لم يرزقها فتموت جوعاً {ويعلم مستقرها ومستودعها} قال ابن عباس: مستقرها المكان الذي تأوي في ليل أو نهار ومستودعها المكان الذي تدفن فيه بعد الموت، وقال ابن مسعود: مستقرها أرحام الأمهات والمستودع المكان الذي تموت فيه وقيل المستقر الجنة أو النار والمستودع القبر {كل في كتاب مبين} أي كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل خلقها قوله عز وجل: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء} يعني قبل خلق السموات والأرض قال كعب خلق الله ياقوتة خضراء ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ثم وضع العرش على الماء. قال ضمرة: إن الله سبحانه وتعالى كان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وخلق القلم فكتب به ما خلق وما هو خالق وما هو كائن من خلقه إلى يوم القيامة ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ألف عام قبل أن يخلق شيئاً من خلقه. وقال سعيد بن جبير سئل ابن عباس عن قوله سبحانه وتعالى: {وكان عرشه على الماء} على أي شيء كان الماء قال: على متن الريح، وقال وهب بن منبه: إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات والأرض ثم قبض الله قبضة من صفاء الماء ثم فتح القبضة فارتفع دخان ثم قضاهن سبع سموات في يومين ثم أخذ سبحانه وتعالى طينة من الماء فوضعها مكان البيت ثم دحا الأرض منها ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين والأرض في يومين ثم رفع آخر الخلق وفي اليوم السابع. قال بعض العلماء: وفي خلق جميع الأشياء وجعلها على الماء ما يدل على كمال القدرة لأن البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الخلق العظيم وهو العرش والسموات والأرض على الماء فهذا يدل على كمال قدرة الله تعالى (خ) عن عمران بن حصين قال «دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب فأتى ناس من بني تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم فقالوا بشرتنا فاعطنا مرتين فتغير وجهه ثم دخل عليه ناس من بني أهل اليمن فقال اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا قبلنا يا رسول الله ثم قالوا جئنا لنتفقه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان قال كان الله سبحانه وتعالى ولم يكن معه شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت فانطلقت أطلبها فإذا السراب يقطع دونها وايم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم» عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال «كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء وخلق عرشه على الماء» أخرجه الترمذي، وقال قال أحمد: يريد بالعماء أنه ليس معه شيء قال أبو بكر البيهقي: في كتاب الأسماء والصفات له قوله صلى الله عليه وسلم «كان الله ولم يكن شيء قبله»، يعني لا الماء ولا العرش ولا غيرهما وقوله {وكان عرشه على الماء} يعني وخلق الماء وخلق العرش على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء، وقوله في عماء وجدته في كتاب عمار مقيداً بالمد فإن كان في الأصل ممدوداً فمعناه سحاب رقيق ويريد بقوله في عماء أي فوق سحاب مدبراً له وعالياً عليه كما قال سبحانه وتعالى {أأمنتم من في السماء} يعني من فوق السماء وقال تعالى: {لأصلبنكم في جذوع النخل} يعني على جذوعها وقوله {ما فوقه هواء} أي ما فوق السحاب هواء وكذلك قوله {وما تحته هواء} أي ما تحت السحاب هواء وقد قيل إن ذلك العمى مقصور والعمى إذا كان مقصوراً فمعناه لا شيء ثابت لأنه مما عمى عن الخلق لكونه غير شيء فكأنه قال في جوابه كان قبل أن يخلق خلقه ولم يكن شيء غيره ثم قال ما فوقه هواء وما تحته هواء أي ليس فوق العمى الذي هو لا شيء موجود هواء ولا تحته هواء لأن ذلك إن كان غير شيء فليس يثبت له هواء بوجه والله أعلم وقال الهروي صاحب الغريبين: قال بعض أهل العلم معناه أين كان عرش ربنا فحذف المضاف اختصاراً كقوله واسأل القرية ويدل على ذلك قوله سبحانه وتعالى: {وكان عرشه على الماء} هذا آخر كلام البيهقي، وقال ابن الأثير: العماء في اللغة السحاب الرقيق وقيل: الكثيف وقيل: هو الضباب ولا بد في الحديث من حذف مضاف، تقديره أين كان عرش ربنا فحذف ويدل على هذا المحذوف قوله تعالى: {وكان عرشه على الماء} وحكي عن بعضهم في العمى المقصور أنه قال هو كل أمر لا يدركه الفطن، وقال الأزهري: قال أبو عبيد إنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم وإلا فلا ندري كيف كان ذلك العماء قال الأزهري: فنحن نؤمن به ولا نكيف صفته (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء» وفي رواية «فرغ الله من المقادير وأمور الدنيا قبل أن يخلق السموات والأرض وكان عرشه على الماء بخمسين ألف سنة» قوله فرغ يريد إتمام خلق المقادير لا أنه كان مشغولاً ففرغ منه لأن الله سبحانه وتعالى لا يشغله شأن عن شأن فإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. قوله سبحانه وتعالى: {ليبلوكم} يعني ليختبركم وهو أعلم بكم منكم {أيكم أحسن عملاً} يعني بطاعة الله وأورع عن محارم الله {ولئن قلت} يعني ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك {إنكم مبعوثون من بعد الموت} يعني للحساب والجزاء {ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين} يعنون القرآن.
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)} {ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة} يعني إلى أجل محدود وأصل الأمة في اللغة الجماعة من الناس فكأنه قال سبحانه وتعالى إلى انقراض أمة ومجيء أمة أخرى {ليقولن ما يحبسه} يعني: أي شيء يحبس العذاب وإنما يقولون ذلك استعجالاً بالعذاب واستهزاء يعنون أنه ليس بشي قال الله عز وجل: {ألا يوم يأتيهم} يعني العذاب {ليس مصروفاً عنهم} أي لا يصرفه عنهم شيء {وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} يعني ونزل بهم وبال استهزائهم. قوله سبحانه وتعالى: {ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة} يعني: رخاء وسعة في الرزق والعيش وبسطنا عليه من الدنيا {ثم نزعناها منه} يعني سلبناه ذلك كله وأصابته المصائب فاجتاحته وذهبت به {إنه ليؤوس كفور} يعني يظل قانطاً من رحمة الله آيساً من كل خير كفور أي جحود لنعمتنا عليه أولاً قليل الشكر لربه قال بعضهم: يا ابن آدم إذا كانت بك نعمة من الله من أمن وسعة وعافية فاشكرها ولا تجحدها فإن نزعت عنك فينبغي لك أن تصبر ولا تيأس من رحمة الله فإنه العواد على عباده بالخير وهو قوله سبحانه وتعالى: {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته} يعني ولئن نحن أنعمنا على الإنسان وبسطنا عليه من العيش {ليقولن} يعني الذي أصابه الخير والسعة {ذهب السيئات عني} يعني ذهب الشدائد والعسر والضيق وإنما قال ذلك غرة بالله عز وجل وجرأة عليه لأنه لم يضف الأشياء كلها إلى الله وإنما أضافها إلى العوائد فهلذا ذمه الله تعالى فقال {إنه لفرح فخور} أي إنه أشر بطر والفرح لذة تحصل في القلب بنيل المراد والمشتهى والفخر هو التطاول على الناس بتعديد المناقب وذلك منهي عنه ثم استثنى فقال تبارك وتعالى: {إلا الذين صبروا، وعملوا الصالحات} قال الفراء: هذا استثناء منقطع معناه لكن الذين صبروا وعملوا الصالحات فإنهم ليسوا كذلك فإنهم إن نالتهم شدة صبروا وإن نالتهم نعمة شكروا عليها {أولئك} يعني من هذه صفتهم {لهم مغفرة} يعني لذنوبهم {وأجر كبير} يعني الجنة. قوله عز وجل: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فلعلك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك ربك أن تبلغه إلى من أمرك أن تبلغ ذلك إليه {وضائق به صدرك} يعني ويضيق صدرك بما يوحى إليك فلا تبلغه إياهم وذلك أن كفار مكة قالوا ائت بقرآن غير هذا ليس فيه سب آلهتنا فهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك ذكر آلهتهم ظاهراً فأنزل الله عز وجل فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك يعني من ذكر آلهتهم هذا ما ذكره المفسرون في معنى هذه الآية وأجمع المسلمون على أنه صلى الله عليه وسلم فيما كان طريقه البلاغ فإنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء منه بخلاف ما هو به لا خطأ ولا عمداً ولا سهواً ولا غلطاً وأنه صلى الله عليه وسلم بلغ جميع ما أنزل الله عليه إلى أمته ولم يكتم منه شيئاً وأجمعوا على أنه لا يجوز على رسول الله صلى الله عليه وسلم خيانة في الوحي والإنذار ولا يترك بعض ما أوحي إليه لقول أحد لأن تجويز ذلك يؤدي إلى الشك في أداء الشرائع والتكاليف لأن المقصود من إرسال الرسول التبليغ إلى من أرسل إليه فإذا لم يحصل ذلك فقد فاتت فائدة الرسالة والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك كله وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد بقوله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك شيئاً آخر سوى ما ذكره المفسرون. وللعلماء في ذلك أجوبة: أحدها: قال ابن الأنباري: قد علم الله سبحانه وتعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئاً مما يوحى إليه إشفاقاً من موجدة أحد وغضبه ولكن الله تعالى أكد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في متابعة الإبلاغ من الله سبحانه وتعالى كما قال: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} الآية. الثاني: أن هذا من حثه سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وتحريضه على أداء ما أنزله إليه والله سبحانه وتعالى من وراء ذلك في عصمته مما يخافه ويخشاه. الثالث: أن الكفار كانوا يستهزئون بالقرآن ويضحكون منه وتهاونون به وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لذلك وأن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويستهزئون به فأمره الله سبحانه وتعالى بتبليغ ما أوحي إليه وأن لا يلتفت إلى استهزائهم وأن يتحمل هذا الضرر أهون من كتم شيء من الوحي، والمقصود من هذا الكلام التنبيه على هذه الدقيقة لأن الإنسان إذا علم أن كل واحد من طرفي الفعل والترك مشتمل على ضرر عظيم ثم علم أن الضرر في باب الترك أعظم سهل عليه الإقدام على الفعل، وقيل: إن الله سبحانه وتعالى مع علمه بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يترك شيئاً من الوحي هيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة باستهزائهم وردهم إلى قبول قوله بقوله: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك} أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم مخافة ردهم واستهزائهم به وضائق به صدرك أي بأن تتلوه عليهم {أن يقولوا} يعني مخافة أن يقولوا {لولا أنزل عليه كنز} يعني يستغني به وينفقه {أو جاء معه ملك} يعني يشهد بصدقه وقائل هذه المقالة هو عبد الله بن أمية المخزومي. والمعنى أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت صادقاً في قولك بأنك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كل شيء وأنت عزيز عنده مع أنك فقير فهلا أنزل عليك ما تستغني به أنت وأصحابك وهل أنزل عليك ملكاً يشهد لك بالرسالة فتزول الشبهة في أمرك فأخبر الله عز وجل أنه صلى الله عليه وسلم نذير بقوله عز وجل: {إنما أنت نذير} تنذر بالعقاب لمن خالفك وعصى أمرك وتبشر بالثواب لمن أطاعك وآمن بك وصدقك {والله على كل شيء وكيل} يعني أنه سبحانه وتعالى حافظ يحفظ أقوالهم وأعمالهم فيجازيهم عليها يوم القيامة.
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)} قوله سبحانه وتعالى: {أم يقولون افتراه} يعني بل يقول كفار مكة اختلقه يعني ما أوحي إليه من القرآن {قل} أي قل لهم يا محمد {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} لما قالوا له افتريت هذا القرآن واختلقته من عند نفسك وليس هو من عند الله تحداهم وأرخى لهم العنان وفاوضهم على مثل دعواهم فقال صلى الله عليه وسلم هبوا أني اختلقته من عند نفسي ولم يوح إلي شيء وأن الأمر كما قلتم وأنتم عرب مثلي من أهل الفصاحة وفرسان البلاغة وأصحاب اللسان فأتوا أنتم بكلام مثل هذا الكلام الذي جئتكم به مختلق من عند أنفسكم فإنكم تقدرون على مثل ما أقدر عليه من الكلام فلهذا قال سبحانه وتعالى: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} في مقابلة قولهم افتراه. فإن قلت قد تحداهم فأن يأتوا بسورة مثله فلم يقدروا على ذلك وعجزوا عنه فكيف قالوا فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ومن عجز عن سورة واحدة فهو عن العشرة أعجز. قلت: قد قال بعضهم إن سورة هود نزلت قبل سورة يونس، وأنه تحداهم أولاً بعشر سور فلما عجزوا تحداهم بسورة يونس وأنكر المبرد هذا القول وقال: إن سورة يونس نزلت أولاً، قال: ومعنى قوله في سورة يونس فأتوا بسورة مثله يعني مثله في الإخبار عن الغيب والأحكام والوعد والوعيد وفي قوله في سورة هود فأتوا بعشر سور مثله يعني في مجرد الفصاحة والبلاغة من غير خبر عن غيب ولا ذكر حكم ولا وعد ولا وعيد فلما تحداهم بهذا الكلام أمره بأن يقول لهم {وادعوا من استطعتم من دون الله} حتى يعينوكم على ذلك {إن كنتم صادقين} يعني في قولكم إنه مفترى {فإن لم يستجيبوا لكم} اعلم أنه لما اشتملت الآية المتقدمة على أمريين وخاطبين: أحدهما: أمر وخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وهو قوله سبحانه وتعالى قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات. والثاني: أمر وخطاب للكفار وهو قوله تعالى وادعوا من استطعتم من دون الله ثم أتبعه بقوله تبارك وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم احتمل أن يكون المراد أن الكفار لم يستجيبوا في المعارضة لعجزهم عنها واحتمل أن يكون المراد أن من يدعون من دون الله لم يستجيبوا للكفار في المعارضة فلهذا السبب اختلف المفسرون في معنى الآية على قولين أحدهما أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه كانوا يتحدون الكفار بالمعارضة ليتبين عجزهم فلما عجزوا عن المعارضة قال الله سبحانه وتعالى لنبيه والمؤمنين فإن لم يستجيبوا لكم فيما دعوتموهم إليه من المعارضة وعجزوا عنه {فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} يعني فاثبتوا على العلم الذي أنتم عليه وازدادوا يقيناً وثباتاً لأنهم كانوا عالمين بأنه منزل من عند الله، وقيل: الخطاب في قوله فإن لم يستجيبوا لكم للنبي صلى الله عليه وسلم وحده وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً له صلى الله عليه وسلم. القول الثاني: أن قوله سبحانه وتعالى فإن لم يستجيبوا لكم خطاب مع الكفار وذلك أنه سبحانه وتعالى لما قال في الآية المتقدمة وادعوا من استطعتم من دون الله قال الله عز وجل في هذه الآية فإن لم يستجيبوا لكم أيها الكفار ولم يعينوكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأنه ليس مفترى على الله بل هو أنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم {وأن لا إله إلا هو} يعني الذي أنزل القرآن هو الله الذي لا إله إلا هو لا من تدعون من دونه {فهل أنتم مسلمون} فيه معنى الأمر أي أسلموا وأخلصوا لله العبادة وإن حملنا معنى الآية على أنه خطاب مع المؤمنين كان معنى قوله فهل أنتم مسلمون الترغيب أي دوموا على ما أنتم عليه من الإسلام. قوله عز وجل: {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} يعني بعمله الذي يعمله من أعمال البر نزلت في كل من عمل عملاً يبتغي به غير الله عز وجل: {نوف إليهم أعمالهم فيها} يعني أجور أعمالهم التي عملوها لطلب الدنيا وذلك أن الله سحبانه وتعالى يوسع عليهم في الرزق ويدفع عنهم المكاره في الدنيا ونحو ذلك {وهم فيها لا يبخسون} يعني أنهم لا ينقصون من أجور أعمالهم التي علموها لطلب الدنيا بل يعطون أجور أعمالهم كاملة موفرة.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)} {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها} يعني وبطل ما عملوا في الدنيا من أعمال البر {وباطل ما كانوا يعملون} لأنه لغير الله واختلف المفسرون في المعنى بهذه الآية فروى قتادة عن أنس أنها في اليهود والنصارى وعن احسن مثله، وقال الضحاك: من عمل عملاً صالحاً في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك اجراً في الدنيا وهو أن يصل رحماً أو يعطي سائلاً أو يرحم مضطراً أو نحو هذا من أعمال البر فيجعل الله له ثواب عمله في الدنيا يوسع عليه في المعيشة والرزق ويقر عينه فيما خوله ويدعف عنه المكاره في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب ويدل على صحة هذا القول سياق الآية وهو قوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار الآية وهذه حالة الكافر في الآخرة وقيل نزلت في المنافقين الذين كانوا يطلبون بغزوهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم لأنهم كانوا لا يرجون ثواب الآخرة وقيل إن حمل الآية على العموم أولى فيندرج الكافر والمنافق الذي هذه صفته والمؤمن الذي يأتي بالطاعات وأعمال البر على وجه الرياء والسمعة قال مجاهد في هذه الآية هم أهل الرياء وهذا القول مشكل لأن قوله سبحانه وتعالى أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار لا يليق بحال المؤمن إلا إذا قلنا إن تلك الأعمال الفاسدة والأفعال الباطلة لما كانت لغير الله استحق فاعلها الوعيد الشديد وهو عذاب النار ويدل على هذا ما روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال الله تبارك وتعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» أخرجه مسلم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تعلم علماً لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار» أخرجه الترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة» يعني ريحها أخرجه أبو داود عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تعوذوا بالله من جب الحزن قالوا يا رسول الله وما جب الحزن قال واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم ألف مرة قيل يا رسول الله من يدخله قال القراء المراؤون بأعمالهم» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب قال البغوي وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر قال الرياء» أخرجه بغير سند والرياء هو أن يظهر الإنسان الأعمال الصالحة ليحمده الناس عليها أو ليعتقدوا فيه الصلاة أو ليقصدوه بالعطاء فهذا العمل هو الذي لغير الله نعوذ بالله من الخذلان قال البغوي وقيل هذا في الكفار يعني قوله من كان يريد الحياة وزينتها أما المؤمن فيريد الدنيا والآخرة وإرادته الآخرة غالبة فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة وروينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يعطى بها خيراً» أخرجه البغوي بغير سند. قوله سبحانه وتعالى: {أفمن كان على بينة من ربه} لما ذكر الله سبحانه وتعالى: في الآية المقتدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله وجه الله تعالى والدار الآخرة فقال سبحانه وتعالى افمن كان على بينة من ربه أي كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها وليس لهم في الآخرة إلا النار وإنما حذف هذا الجواب لظهوره ودلالة الكلام عليه وقيل معناه أفمن كان على بينة من ربه وهو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كمن هو في ضلالة وكفر والمراد بالبينة الدين الذي أمر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم وقيل المراد بالبينة اليقين يعني أنه على يقين من ربه أنه على الحق {ويتلوه شاهد منه} يعني ويتبعه من يشهد له بصدقه واختلفوا في الشاهد من هو، فقال ابن عباس وعلقمة وإبراهيم ومجاهد وعكرمة والضحاك وأكثر المفسرين: أنه جبريل عليه السلام يريد أن جبريل يتبع النبي صلى الله عليه وسلم ويؤيده ويسدده ويقويه وقال الحسن وقتادة هو لسان النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن محمد بن الحنفية قال قلت لأبي يعني علي بن أبي طالب رضي الله تعالى: عنه أنت التالي؟ قال: وما تعني بالتالي؟ قلت: قوله سبحانه وتعالى ويتلوه شاهد منه قال وددت أني هو ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجه هذا القول إن اللسان لما كان يعرف عما في الجنان ويظهره جعل كالشاهد له لأن اللسان هو آلة الفضل والبيان وبه يتلى القرآن وقال مجاهد الشاهد هو ملك يحفظ النبي صلى الله عليه وسلم ويسدده وقال الحسين بن الفضل: الشاهد هو القرآن لأن إعجازه وبلاغته وحسن نظامه يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بنبوته ولأنه أعظم معجزاته الباقية على طول الدهر، وقال الحسين بن علي وابن زيد: الشاهد منه هو محمد صلى الله عليه وسلم ووجه هذا القول أن من نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعين العقل والبصيرة علم أنه ليس بكذاب ولا ساحر ولا كاهن ولا مجنون، وقال جابر بن عبد الله قال علي بن أبي طالب: ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك فقال على ما تقرأ الآية التي في هود ويتلوه شاهد منه فعلى هذا القول يكون الشاهد علي بن أبي طالب وقوله يعني من النبي صلى الله عليه وسلم والمراد تشريف هذا الشاهد وهو علي لاتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم وقيل يتلوه شاهد منه يعني الإنجيل وهو اختيار الفراء والمعنى أن الإنجيل يتلو القرآن في التصديق بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والأمر بالإيمان به وإن كان قد نزل قبل القرآن. وقوله سبحانه وتعالى: {ومن قبله} يعني ومن قبل نزول القرآن وإرسال محمد صلى الله عليه وسلم {كتاب موسى} يعني التوراة {إماماً ورحمة} يعني أنه كان إماماً لهم يرجعون إليه في أمور الدين والأحكام والشرائع وكونه رحمة لأنه الهادي من الضلال وذلك سبب حصول الرحمة وقوله تعالى: {أولئك يؤمنون به} يعني أن الذين وصفهم الله بأنهم على بينة من ربهم هم المشار إليهم بقوله ولئك يؤمنون به يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم وقيل أراد الذين أسلموا من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه {ومن يكفر به} يعني بمحمد صلى الله عليه وسلم {من الأحزاب} يعني من جميع الكفار وأصحاب الأديان المختلفة فتدخل فيه اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان وغيرهم والأحزاب والفرق الذين تحزبوا وتجمعوا على مخالفة الأنبياء {فالنار موعده} يعني في الآخرة روى البغوي بسنده عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار» قال سعيد بن جبير: ما بلغني حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في كتاب الله عز وجل حتى بلغني هذا الحديث لا يسمع بي أحد من هذه الأمة الحديث، قال سعيد: فقلت أين هذا في كتاب الله حتى أتيت على هذه الآية {ومن قبله كتاب موسى} إلى قوله سبحانه وتعالى: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} قال فالأحزاب أهل الملل كلها ثم قال سبحانه وتعالى: {فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك} فيه قولان أحدهما أن معناه فلا تك في شك من صحة هذا الدين ومن كون القرآن نازلاً من عند الله فعلى هذا القول يكون متعلقاً بما قبله من قوله تعالى: {أم يقولون افتراه} والقول الثاني: إنه راجع إلى قوله {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} يعني فلا تك في شك من أن النار موعد من كفر من الأحزاب والخطاب في قوله {فلا تك في مرية} للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشك قط ويعضد هذا القول سياق الآية وهو قوله سبحانه وتعالى: {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} يعني لا يصدقون بما أوحينا إليك أو من أن موعد الكفار النار.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)} قوله عز وجل: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً} يعني أي الناس أشد تعدياً ممن اختلق على الله كذباً فكذب عليه وزعم أن له شريكاً أو ولداً وفي الآية دليل على أن الكذب على الله من أعظم أنواع الظلم لأن قوله تعالى: {ومن أظلم ممن أفترى على الله كذباً} ورد في معرض المبالغة {أولئك} يعني المفترين على الكذب {يعرضون على ربهم} يعني يوم القيامة فيسألهم عن أعمالهم في الدنيا {ويقول الأشهاد} يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم، قاله مجاهد وقال ابن عباس: هم الأنبياء والرسل وبه قال الضحاك وقال قتادة: الأشهاد الخلق كلهم {هؤلاء الذين كذبوا على ربهم} يعني: في الدنيا وهذه الفضيحة تكون في الآخرة لكل من كذب على الله {ألا لعنة الله على الظالمين} يعني يقول الله ذلك يوم القيامة فيلعنهم ويطردهم من رحمته (ق). عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجوى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه تعرف ذنب كذا وكذا فيقول أعرب رب أعرف مرتين فيقول سترتها عليه في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته» وفي رواية «ثم تطوى صحيفة حسناته» وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد وفي رواية «فينادى بهم على رؤوس الأشهاد من الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» قوله سبحانه وتعالى: {الذين يصدون عن سبيل الله} هذه الآية متصلة بما قبلها والمعنى ألا لعنة الله على الظالمين ثم وصفهم فقال الذين يصدون عن سبيل الله يعني يمنعون الناس من الدخول في دين الله الذي هو دين الإسلام {ويبغونها عوجاً} يعني ويطلبون إلقاء الشبهات في قلوب الناس وتعويج الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام {وهم بالآخرة هم كافرون} يعني وهم مع صدهم عن سبيل الله يجحدون البعث بعد الموت وينكرونه {أولئك} يعني من هذه صفتهم {لم يكونوا معجزين في الأرض} قال ابن عباس يعني سابقين وقيل هاربين وقيل فائتين في الأرض والمعنى أنهم لا يعجزون الله إذا أرادهم بالعذاب والانتقام منهم ولكنهم في قبضته وملكه لا يقدرون على الامتناع منه إذا طلبهم {وما كان لهم من دون الله من أولياء} يعني وما كان لهؤلاء المشركين من أنصار يمنعونهم من دون الله إذا أراد بهم سوءاً وعذاباً {يضاعف لهم العذاب} يعني في الآخرة يزاد عذابهم بسبب صدهم عن سبيل الله وإنكارهم البعث بعد الموت {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} قال قتادة صموا عن سمع الحق فلا يسمعون خيراً فينتفعون به ولا يبصرون خيراً فيأخذون به. وقال ابن عباس أخبر الله سبحانه وتعالى أنه أحال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فإنه قال ما كانوا يستطيعون السمع وهي طاعته وما كانوا يبصرون وأما في الآخرة فإنه قال لا يستطيعون خاشعة أبصارهم.
{أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)} {أولئك الذين خسروا أنفسهم} يعني أن هؤلاء الذين هذه صفتهم هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله {وضل عنهم ما كانوا يفترون} يعني وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله وادعاؤهم أن الملائكة والأصنام تشفع لهم {لا جرم} يعني حقاً وقال الفراء لا محالة {أنهم في الآخرة هم الأخسرون} لأنهم باعوا منازلهم في الجنة واشتروا عوضها منازل في النار وهذا هو الخسران المبين. قوله عز وجل: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم} لما ذكر الله عز وجل أحوال الكفار في الدنيا وخسرانهم في الآخرة أتبعه بذكر أحوال المؤمنين في الدنيا وربحهم في الآخرة والإخبات في اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب ولفظ الإخبات يتعدى بإلى وباللام فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه وإذا قلت أخبت له فمعناه خشع وخضع له فقوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات} إشارة إلى جميع أعمال الجوارح وقوله وأخبتوا إشارة إلى أعمال القلوب وهي الخضوع والخشوع لله عز وجل يعني أن هذه الأعمال الصالحة لا تنفع في الآخرة إلا بحصول أعمال القلب وهي الخشوع والخضوع فإذا فسرنا الإخبات بالطمأنينة كان معنى الكلام يأتون بالأعمال الصالحة مطمئنين إلى صدق وعد الله بالثواب والجزاء على تلك الأعمال أو يكونون مطمئنين إلى ذكره سبحانه وتعالى وإذا فسرنا الإخبات الخشوع والخضوع كان معناه أنهم يأتون بالأعمل الصالحة خائفين وجلين أن لا تكون مقبولة وهو الخشوع والخضوع {أولئك} يعني الذين هذه صفتهم {أصحاب الجنة هم فيها خالدون} أخبر عن حالهم في الآخرة بأنهم من أهل الجنة التي لا انقطاع لنعيمها ولا زوال. قوله سبحانه وتعالى: {مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع} لما ذكر الله سبحانه وتعالى أحوال الكفار وما كانوا عليه من العمى عن طريق الهدى والحق ومن الصمم عن سماعه وذكر أحوال المؤمنين وما كانوا عليه من البصيرة وسماع الحق والانقياد للطاعة ضرب لهم مثلاً فقال تبارك وتعالى مثل الفريقين يعني فريق المؤمنين وفريق الكفارين كالأعمى وهو الذي لا يهتدي لرشده والأصم وهو الذي لا يسمع شيئاً البتة، والبصير وهو الذي يبصر الأشياء على ماهيتها، والسميع وهو الذي يسمع الأصوات ويجيب الداعي فمثل المؤمنين كمثل الذي يسمع ويبصر وهو الكامل في نفسه ومثل الكافر كمثل الذي لا يسمع ولا يبصر وهو الناقص في نفسه {هل يستويان مثلاً} قال الفراء لم يقل هل يستوون لأن الأعمى والأصم في حيز كأنهما واحد وهما من وصف الكافر والبصير والسميع في حيز كأنهما واحد وهما من وصف المؤمن {أفلا تذكرون} يعني فتتعظون. قوله عز وجل: {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه إني لكم نذير مبين} يعني أن نوحاً عليه السلام قال لقومه حين أرسله الله إليهم إني لكم أيها القوم نذير مبين يعني بين النذارة أخوف بالعقاب من خالفة أمر الله وعبد غيره؛ وهو قوله سبحانه وتعالى: {أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم} يعني مؤلم موجع قال ابن عباس: بعث نوح بعد أربعين سنة ولبث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة فكان عمره ألفاً وخمسين سنة. وقال مقاتل: بعث وهو ابن مائة سنة وقيل وهو ابن خمسين سنة وقيل وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو يومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة.
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)} {فقال الملأ الذين كفروا من قومه} يعني الأشراف والرؤساء من قوم نوح {ما نراك} يا نوح {إلا بشراً مثلنا} يعني آدمياً مثلنا لا فضل لك علينا لأن التفاوت الحاصل بني آحاد البشر يمتنع اشتهاره إلى حيث يصير الواحد منهم واجب الطاعة على جميع العالم وإنما قالوا هذه المقالة وتمسكوا بهذه الشبهة جهلاً منهم لأن من حق الرسول أن يباشر الأمة بالدعوة إلى الله تعالى بإقامة الدليل والبرهان على ذلك ويظهر المعجزة الدالة على صدقه ولا يأتي ذلك إلا من آحاد البشر وهو من اختصه الله بكرامته وشرفه بنبوته وأرسله إلى عباده ثم قال سبحانه وتعالى إخباراً عن قوم نوح {وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا} يعني سفلتنا والرذل الدون من كل شيء قيل هم الحاكة والأساكفة وأصحاب الصنائع الخسيسة وإنما قالاو ذلك جهلاً منهم أيضاً لأن الرفعة في الذين ومتابعة الرسول لا تكون بالشرف ولا بالمال والمناصب العالية بل للفقراء الخاملين وهم أتباع الرسل ولا يضرهم خسة صنائعهم إذا حسنت سيرتهم في الدين {بادي الرأي} يعني أنهم اتبعوك في أول الرأي من غير تثبت وتفكر في أمرك، ولو تفكروا ما اتبعوك. وقيل: معناه ظاهر الرأي، يعني أنهم اتبعوك من غير أن تفكروا باطناً {وما نرى لكم علينا من فضل} يعني بالمال والشرف والجاه وهذا القول أيضاً جهل منهم لأن الفضيلة المعتبرة عند الله بالإيمان والطاعة لا بالشرف والرياسة {بل نظنكم كاذبين} قيل الخطاب لنوح ومن آمن معه من قومه وقيل هو لنوح وحده فعلى هذا يكون الخطاب بلفظ الجمع للواحد على سبيل التعظيم {قال} يعني نوحاً {يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي} يعني على بيان ويقين من ربي بالذي أنذرتكم به {وآتاني رحمة من عنده} يعني هدياً ومعرفة ونبوة {فعميت عليكم} يعني خفيت وألبست عليكم {أنلزمكموها} الهاء عائدة إلى الرحمة والمعنى أنلزمكم أيها القوم قبول الرحمة يعني أنا لا نقدر أن نلزمكم ذلك من عند أنفسنا {وأنتم لها كارهون} وهذا استفهام معناه الإنكار أي لا أقدر على ذلك والذي أقدر عليه أن أدعوكم إلى الله وليس لي أن أضطركم إلى ذلك قال قتادة والله لو استطاع نبي صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ولكنه لم يملك ذلك {ويا قوم لا أسألكم عليه مالاً} يعني لا أسألكم ولا أطلب منكم على تبليغ الرسالة جعلاً {إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا} وذلك أنهم طلبوا من نوح أن يطرد الذين آمنوا وهم الأرذلون في زعمهم فقال ما يجوز لي ذلك لأنهم يعتقدون {إنهم ملاقو ربهم} فلا أطردهم {ولكني أراكم قوماً تجهلون} يعني عظمة الله ووحدانيته وربوبيته وقيل معناه إنكم تجهلون أن هؤلاء المؤمنين خير منكم {ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم} يعني من يمنعني من عذاب الله إن طردتهم عني لأنهم مؤمنون مخلصون {أفلا تذكرون} يعني فتتعظون.
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)} {ولا أقول لكم عندي خزائن الله} هذا عطف على قوله لا أسألكم عليه مالاً والمعنى لا أسألكم عليه مالاً ولا أقول لكم عندي خزائن الله يعني التي لا يفنيها شيء فأدعوكم إلى اتباعي عليها لأعطيكم منها وقال ابن الأنباري الخزائن هنا بمعنى غيوب الله وما هو منطو عن الخلق وإنما وجب أن يكون هذا جواباً من نوح عليه السلام لهم لأنهم قالوا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وادعوا أن المؤمنين إنما اتبعوه في ظاهر ما يرى منهم وهم في الحقيقة غير متبعين له فقال مجيباً لهم ولا أقول لكم عندي خزائن الله التي لا يعلم منها ما ينطوي عليه عباده وما يظهرونه إلا هو وإنما قيل للغيوب خزائن لغموضها عن الناس واستتارها عنهم والقول الأول أولى ليحصل الفرق بين قوله ولا أقول لكم عندي خزائن الله وبين قوله {ولا أعلم الغيب} يعني ولا أدعي علم ما يغيب عني مما يسرونه في نفوسهم فسبيل قبول إيمانهم في الظاهر ولا يعلم ما في ضمائرهم إلا الله {ولا أقول إني ملك} وهذا جواب لقولهم ما نراك إلا بشراً مثلنا أي لا أدعي أني من الملائكة بل أنا بشر مثلكم أدعوكم إلى الله وأبلغكم ما أرسلت به إليكم. (فصل) استدل بعضهم بهذه الآية على تفضيل الملائكة على الأنبياء قال لأن نوحاً عليه السلام قال ولا أقول إني ملك لأن الإنسان إذا قال أنا لا أدعي كذا وكذا لا يحسن إلا إذا كان ذلك الشيء أشرف وافضل من أحوال ذلك القائل فلما قال نوح عليه السلام هذه المقالة وجب أن يكون الملك أفضل منه والجواب أن نوحاً عليه السلام إنما قال هذه المقالة في مقابلة قولهم ما نراك إلا بشراً مثلنا لما كان في ظنهم أن الرسل لا يكونون من البشر إنما يكونون من الملائكة فأعلمهم أن هذا ظن باطل وأن الرسل إلى البشر إنما يكونون من البشر فلهذا قال سبحانه وتعالى: {ولا أقول إني ملك} ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء والله أعلم. وقوله سبحانه وتعالى: {ولا أقول للذين تزدري أعينكم} يعني تحتقر وتستصغر أعينكم يعني المؤمنين وذلك لما قالوا إنهم أراذلنا من الرذالة وهي الخسة {لن يؤتيهم الله خيراً} يعني توفيقاً وهداية وإيماناً وأجراً {الله أعلم بما في أنفسهم} يعني من الخير والشر {إني إذاً لمن الظالمين} يعني إن طردتهم مكذباً لظاهرهم ومبطلاً لإيمانهم يعني أني إن فعلت هذا فأكون قد ظلمتهم وأنا لا أفعله فما أنا من الظالمين {قالوا يا نوح قد جادلتنا} يعني خاصمتنا {فأكثرت جدالنا} يعني خصومتنا {فأتنا بما تعدنا} يعني من العذاب {إن كنت من الصادقين} يعني في دعواك أنك رسول الله إلينا {قال إنما يأتيكم به الله إن شاء} يعني قال نوح لقومه حين استعجلوه بإنزال العذاب إن ذلك ليس إليّ إنما هو إلى الله ينزله متى شاء وعلى من يشاء إن أراد إنزال العذاب بكم {وما أنتم بمعجزين} يعني وما أنتم بفائتين إن أراد الله نزول العذاب بكم {ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم} يعني ولا ينفعكم إنذاري وتحذيري إياكم عقوبته ونزول العذاب {إن كان الله يريد أن يغويكم} يعني يضلكم وقيل يهلككم وهذا معنى وليس بتفسير لأن الإغواء يؤدي إلى الهلاك {هو ربكم} يعني أنه سبحانه وتعالى هو يملككم فلا تقدرون على الخروج من سلطانه {وإليه ترجعون} يعني في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم {أم يقولون افتراه} أي اختلقه وجاء به من عند نفسه والضمير يعود إلى الوحي الذي جاءهم به {قل إن افتريته} أي اختلقته {فعلي إجرامي} أي إثم إجرامي والإجرام اقتراف السيئة واكتسابها يقال جرم وأجرم بمعنى أنه اكتسب الذنب وافتعله {وأنا بريء مما تجرمون} يعني من الكفر والتكذيب وأكثر المفسرين على أن هذا من محاورة نوح قومه فهي من قصة نوح عليه السلام وقال مقاتل {أم يقولون} يعني المشركين من كفار مكة افتراه يعني محمداً صلى الله عليه وسلم اختلق القرآن من عند نفسه فعلى هذا القول تكون هذه الآية معترضة في قصة نوح ثم رجع إلى القصة فقال سبحانه وتعالى: {وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن} قال ابن عباس إن قوم نوح كانوا يضربون نوحاً حتى يسقط فيلفونه في لبد ويلقونه في بيت يظنون أنه قد مات فيخرج في اليوم الثاني ويدعوهم إلى الله ويروي أن شيخاً منهم جاء متكئاً على عصاه ومعه ابنه فقال يا بني لا يغرنك هذا الشيخ المجنون فقال يا أبت أمكني من العصا فأخذه من أبيه وضرب بها نوحاً عليه السلام حتى شجه شجة منكرة فأوحى الله إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن {فلا تبتئس} يعني فلا تحزن عليهم فإني مهلكهم {بما كانوا يفعلون} يعني بسبب كفرهم وأفعالهم فحينئذ دعا نوح عليه السلام عليهم فقال {رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً} وحكى محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عمير الليثي أنه بلغه أنهم كانوا يبسطون نوحاً فيخنقونه حتى يغشى عليه فإذا أفاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه فإذا فاق قال رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون حتى تمادوا في المعصية واشتد عليه منهم البلاء وهو ينتظر الجيل بعد الجيل فلا يأتي قرن إلا كان أنحس من الذي قبله ولقد كان يأتي القرن الآخر منهم فيقول قد كان هذا الشيخ مع آبائنا وأجدادنا هكذا مجنوناً فلا يقبلون منه شيئاً فشكا نوح إلى الله عز وجل فقال يا رب {أني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} الآيات حتى بلغ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)} {واصنع فلك} يعني السفينة والفلك لفظ يطلق على الواحد والجمع {بأعيننا} قال ابن عباس بمرأى منا وقيل بعلمنا وقيل بحفظنا {ووحينا} يعني بأمرنا {ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون} يعني بالطوفان والمعنى ولا تخاطبني في إمهال الكفار فإني قد حكمت بإغراقهم وقيل ولا تخاطبني في ابنك كنعان وامرأتك واعلة فإنهما هالكان مع القوم وقيل إن جبريل أتى نوحاً فقال له إن ربك يأمرك أن تصنع الفلك فقال كيف أصنعها ولست نجاراً فقال إن ربك يقول اصنع فإنك بأعيننا فأخذ القدوم وجعل ينجر ولا يخطئ فصنعها مثل جؤجؤ الطير وهو قوله سبحانه وتعالى: {ويصنع الفلك} يعني كما أمره الله سبحانه وتعالى قال أهل السير لما أمر الله سبحانه وتعالى نوحاً بعمل السفينة أقبل على عملها ولها عن قومه وجعل يقطع الخشب ويضرب الحديد ويهيئ القار وكل ما يحتاج إليه في عمل الفلك وجعل قومه يمرون وهو في عمله فيسخرون منه ويقولون يا نوح قد صرت نجاراً بعد النبوة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم ولد قال البغوي وزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه وأن يجعل طوله ثمانين ذراعاً وعرضه خمسين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثين ذراعا والذراع إلى المنكب وأن يجعله ثلاث طباق سفلى ووسطى وعلياً وأن يجعل فيه كوى فصنعه نوح كما أمره الله سبحانه وتعالى وقال ابن عباس اتخذ نوح السفينة في سنتين فكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعاً وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً وكانت من خشب الساج وجعل لها ثلاثة بطون فجعل في البطن الأسفل الوحوش والسباع والهوام وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام وركب هو ومن معه في البطن الأعلى وجعل معه ما يحتاج إليه من الزاد وغيره قال قتادة وكان بابها في عرضها، وروي عن الحسن: أنه كان طولها ألف ومائتي ذراع وعرضها ستمائة ذراع والقول الأول أشهر وهو أن طولها ثلثمائة ذراع وقال زيد بن أسلم: مكث نوح مائة سنة يغرس الأشجار ويقطعها ومائة سنة يصنع الفلك، وقال كعب الأحبار: عمل نوح عليه السلام السفينة في ثلاثين سنة وروي أنها ثلاثة أطباق الطبقة السفلى للدواب، والوحوش والطبقة الوسطى للإنس والطبقة العلياء للطير فلما كثرت رواث الدواب أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلام أن اغمز ذنب الفيل فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ومسح على الخنزير فوقع منه الفأر فأقبلوا على الروث فأكلوه فلما أفسد الفأر في السفينة فجعل يقرضها ويقرض حبالها أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة وهي القطة والقط فأقبلا على الفأر فأكلاه. قوله سبحانه وتعالى: {وكلما مر عليه ملأ من قومه} أي جماعة من قومه {سخروا منه} يعني استهزؤوا به وذلك أنهم قالوا إن هذا الذي كان يزعم أنه نبي قد صار نجاراً وقيل قالوا يا نوح ماذا تصنع قال أصنع بيتاً يمشي على الماء فضحكوا منه {قال} يعني نوحاً لقومه {إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون} يعني إن تستجهلونا في صنعنا فإنا نستجهلكم لتعرضكم لما يوجب سخط الله وعذابه، فإن قلت السخرية لا تليق بمنصب النبوة فكيف قال نوح عليه السلام إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون. قلت إنما سمي هذا لفعل سخرية على سبيل الازدوج في مشاكلة الكلام كما في قوله سبحانه وتعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} والمعنى إنا نرى غب سخريتكم بنا إذا نزل بكم العذاب.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)} قوله تعالى: {فسوف تعلمون} يعني فسترون {من يأتيه} يعني أينا يأتيه نحن أو أنتم {عذاب يخزيه} يعني يهينه {ويحل عليه عذاب مقيم} يعني في الآخرة فالمراد بالعذاب الأول عذاب الدنيا وهو الغرق والمراد بالعذاب الثاني عذاب الآخرة وعذاب النار الذي لا انقطاع له. وقوله عز وجل: {حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور} يعني وغلى والفور الغليان وفارت القدر إذا غلت. والتنور: فارسي معرب لا تعرف له العرب اسماً غير هذا فلذلك جاء في القرآن بهذا اللفظ فخوطبوا بما يعرفون وقيل إن لفظ التنور جاء هكذا بكل لفظ عربي وعجمي وقيل إن لفظ التنور أصله أعجمي فتكلمت به العرب فصار عربياً مثل الديباج ونحوه واختلفوا في المراد بهذا التنور، فقال عكرمة والزهري: هو وجه الأرض وذلك أنه قيل لنوح عليه السلام إذا رأيت الماء قد فار على وجه الأرض فاركب السفينة فعلى هذا يكون قد جعل فوران التنور علامة لنوح على هذا الأمر العظيم وقال علي: فار التنور أي طلع الفجر ونور الصبح شبه نور الصبح بخروج النار من التنور، وقال الحسن ومجاهد والشعبي: إن التنور هو الذي يخبز فيه، وهو قول أكثر المفسرين ورواية عن ابن عباس، أيضاً وهذا القول أصح لأن اللفظ إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة في اسم الموضع الذي يخبز فيه فوجب حمل اللفظ عليه. فإن قلت الألف واللام في لفظ التنور للعهد وليس هاهنا معهود سابق عند السامع فوجب حمله على غيره وهو شدة الأمر والمعنى إذا رأيت الماء يشتد نبوعه ويقوى فانج بنفسك ومن معك. قلت: لا يبعد أن يكون ذلك التنور معلوماً عند نوح عليه السلام، قال الحسن كان تنوراً من حجارة وكانت حواء تخبز فيه ثم صار إلى نوح وقيل له إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك واختلفوا في موضع التنور فقال مجاهد نبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته وكان ذلك في ناحية الكوفة وكان الشعبي يحلف بالله ما فار التنور إلا من ناحية الكوفة، قال الشعبي: اتخذ نوح السفينة في جوف مسجد الكوفة وكان التنور على يمين الداخل مما يلي باب كندة وكان فوران التنور علامة لنوح عليه السلام، وقال مقاتل: كان ذلك التنور تنور آدم وكان بالشام بموضع يقال له عين وردة وروي عن ابي عباس أنه كان بالهند قال: والفوران الغليان {قلنا احمل فيها} يعني: قلنا لنوح احمل في السفينة {من كل زوجين اثنين} الزوجان كل اثنين لا يستغني أحدهما عن الآخر كالذكر والأنثى يقال لكل واحد منهما زوج والمعنى من كل صنف زوجين ذكراً أو أنثى فحشر الله سبحانه وتعالى إليه الحيوان من الدواب والسباع والطير فجعل نوح يضرب بيديه في كل جنس منها فيقع الذكر في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى فيجعلهما في السفينة {وأهلك} أي واحمل أهلك وولدك وعيالك {إلا من سبق عليه القول} يعني بإهلاك وأراد به امرأته واعلة وولده كنعان {ومن آمن} يعني واحمل معك من آمن بك من قومك {وما آمن معه إلا قليل} اختلفوا في عدد من حمل نوح معه في السفينة فقال قتادة وابن جريج ومحمد كعب القرظي لم يكن في السفينة إلا ثمانين: نفر نوح وامرأته وثلاثة بنين له وهم سام وحام ويافث ونساؤهم؛ وقال الأعمش: كانوا سبعة نوحاً وبنيه وثلاث كنائن له. وقال محمد بن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم وهم نوح وبنوه سام وحام ويافث وستة نفر آمنوا بنوح وأزواجهم جميعاً، وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين نفراً رجلاً وامرأة وقال ابن عباس كان في السفينة ثمانون رجلاً أحدهم جرهم، قال الطبري: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: {وما آمن معه إلا قليل} فوصفهم الله سبحانه وتعالى بالقلة ولم يحدد عدداً بمقدار فلا ينبغي أن يجاوز في ذلك حد الله سبحانه وتعالى إذ لم يرد ذلك في كتاب ولا خبر صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مقاتل: حمل نوح معه جسد آدم عليه السلام فجعله معترضاً بين الرجال والنساء وقصد نوحاً جميع الدواب والطيور ليحملها قال ابن عباس: أول ما حمل نوح الدرة وآخر ما حمل الحمار فلما أراد أن يدخل الحمار أدخل صدره فتعلق إبليس بذنبه فلم تنتقل رجلاه وجعل نوح يقول له ويحك ادخل فينهض فلا يستطيع حتى قال له أدخل وإن كان الشيطان معك كلمة ذلت على لسانه فلما قالها نوح خلى سبيل الحمار فدخل الحمار ودخل الشيطان معه فقال له نوح ماذا أدخلك عليّ يا عدو الله قال ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك قال اخرج عني يا عدو الله. قال: لا بد من أن تحملني معك فكان فيما يزعمون على ظهر السفينة، هكذا نقله البغوي وقال الإمام فخر الدين الرازي: وأما الذي يروى أن إبليس دخل السفينة فبعيد لأنه من الجن وهو جسم ناري أو هوائي فكيف يفر من الغرق وأيضاً فإن كتاب الله لم يدل على ذلك ولم يرد فيه خبر صحيح فالأولى ترك الخوض فيه، قال البغوي: وروي عن بعضهم أن الحية والعقرب أتيا نوحاً عليه السلام فقالتا احملنا معك فقال إنكما سبب البلاء فلا أحملكما فقالتا احملنا فنحن نضمن لك أن لا نضر أحداً ذكرك فمن قرأ حين يخاف مضرتهما سلام على نوح في العالمين لم تضراه وقال الحسن لم يحمل نوح معه في السفينة إلا ما يلد ويبيض وأما ما سوى ذلك مما يتولد من الطين من حشرات الأرض كالبق والبعوض فلم يحمل منها شيئاً.
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)} قوله سبحانه وتعالى: {وقال اركبوا فيها} يعني وقال نوح لمن حمل معه اركبوا في السفينة {بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم} يعني بسم الله اجراؤها وإرساؤها قال الضحاك كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال بسم الله فتجري وكان إذا أراد أن ترسو يعني تقف قال بسم الله فترسو أي تقف وهذا تعليم من الله لعباده أنه من أراد أمراً فلا ينبغي له أن يشرع فيه حتى يذكر اسم الله عليه وقت الشروع حتى يكون ذلك سبباً للنجاح والفلاح في سائر الأمور {وهي تجري بهم في موج كالجبال} الموج ما ارتفع من الماء إذا اشتدت عليه الريح، شبهه سبحانه وتعالى بالجبال في عظمه هو ارتفاعه على الماء قال العلماء: بالسير أرسل الله المطر أربعين يوماً وليلة وخرج الماء من الأرض فذلك قوله سبحانه وتعالى: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر} يعني: صار إناء نصفين نصفاً من السماء ونصفاً من الأرض وارتفع الماء على أعلى جبل وأطوله أربعين ذراعاً وقيل خمسة عشر ذراعاً حتى أغرق كل شيء. وروي أنه لما كثر الماء في الشكك خافت أم الصبي على ولدها من الغرق وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت به إلى الجبل حتى بلغت ثلثه فلحقها الماء فارتفعت حتى بلغت ثلثيه فلما لحقها الماء ذهبت حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء إلى رقبتها رفعت الصبي بيديها حتى ذهب بهما الماء فأغرقهما فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي {ونادى نوح ابنه} يعني كنعان وكان كافراً {وكان في معزل} يعني عن نوح لم يركب معه {يا بني اركب معنا} يعني في السفينة {ولا تكن مع الكافرين} يعني فتهلك معهم {قال} يعني قال كنعان {سآوي} يعني سألتجئ وأصير {إلى جبل يعصمني} يعني يمنعني {من الماء قال} يعني قال له نوح {لا عاصم} يعني لا مانع {اليوم من أمر الله} يعني من عذابه {إلا من رحم} يعني إلا من رحمه الله فينجيه من الغرق {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين} يعني كنعان.
{وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)} {وقيل} يعني بعد ما تناهى الطوفان وأغرق الله قوم نوح {يا أرض ابلعي ماءك} أي اشربيه {ويا سماء أقلعي} أي أمسكي {وغيض الماء} أي نقص ونضب يقال غاض الماء إذا نقص وذهب {وقضي الأمر} يعني وفرغ من الأمر وهو هلاك قوم نوح {واستوت} يعني واستقرت السفينة {على الجودي} وهو جبل بالجزيرة بقرب الموصل {وقيل بعداً} يعني هلاكاً {للقوم الظالمين} قال العلماء: بالسير لما استقرت السفينة بعث نوح الغراب ليأتيه بخبر الأرض فوقع على جيفة فلم يرجع إليه فبعث الحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوح أن الماء قد ذهب فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا يألف البيوت وطوق الحمامة بالخضرة التي في عنقها ودعا لها بالأمان فمن ثم تألف البيوت وروي أن نوحاً عليه السلام ركب السفينة لعشر بقين من رجب وجرت بهم السفينة ستة أشهر ومرت بالبيت الحرام وقد رفعه الله من الغرق وبقي موضعه فطافت السفينة به سبعاً وأودع الحجر الأسود جبل أبي قبيس وهبط نوح ومن معه في السفينة يوم عاشوراء فصامه نوح عليه السلام وأمر جميع من معه بصيامه شكراً لله تعالى وبنوا قرية بقرب الجبل فسميت سوق ثمانين فهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان، وقيل: إنه لم ينج أحد من الكفار من الغرق غير عوج بن عنق وكان المال يصل إلى حجزته وسبب نجاته من الهلاك أن نوحاً عليه السلام احتاج إلى خشب ساج لأجل السفينة فلم يمكنه نقله فحمله عوج بن عنق من الشام إلى نوح فنجاه الله من الغرق لذلك. فإن قلت: كيف اقتضت الحكمة الإلهية والكرم العظيم إغراق من لم يبلغوا الحلم من الأطفال ولم يدخلوا تحت التكليف بذنوب غيرهم. قلت: ذكر بعض المفسرين أن الله عز وجل أعقم أرحام نسائهم أربعين سنة فلم يولد لهم ولد تلك المدة وهذا الجواب ليس بقوي لأنه يرد عليه إغراق جميع الدواب والهوام والطير وغير ذلك من الحيوان ويرد على ذلك أيضاً إهلاك أطفال الأمم الكافرة مع آبائهم غير قوم نوح. والجواب الشافي عن هذا كله أن الله سبحانه وتعالى متصرف في خلقه وهو المالك المطلق يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. قوله عز وجل: {ونادى نوح ربه} أي دعاه وسأله {فقال رب إن ابني من أهلي} يعني وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي {وإن وعدك الحق} يعني الصدق الذي لا خلف فيه {وأنت أحكم الحاكمين} يعني أنك حكمت لقوم بالنجاة وحكمت على قوم بالهلاك {قال} يعني قال الله تعالى: {يا نوح إنه} يعني هذا الابن الذي سألتني نجاته {ليس من أهلك} اختلف علماء التفسير: هل كان هذا الولد ابن نوح لصلبه أم لا فقال الحسن ومجاهد كان ولد حدث من غير نوح ولم يعلم به فلذلك قال إنه ليس من أهلك، وقال محمد بن جعفر الباقر: كان ابن امرأة نوح وكان يعلمه نوح ولذلك قال من أهلي ولم يقل مني. وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأكثر المفسرين: إنه ابن نوح من صلبه، وهذا القول هو الصحيح والقولان الأولان ضعيفان بل باطلان ويدل على صحة هذا نقل الجمهور لما صح عن ابن عباس أنه قال: ما بغت امرأة نبي قط ولأن الله سبحانه وتعالى نص عليه بقوله سبحانه وتعالى: {ونادى نوح ابنه} ونوح صلى الله عليه وسلم أيضاً نص عليه بقوله {يا بني اركب معنا} وهذا نص في الدلالة وصرف الكلام عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة لا يجوز وإنما خالف هذا الظاهر من خالفه لأنه استبعد أن يكون ولد نبي كافراً وهذا خطأ ممن قاله لأن الله سبحانه وتعالى خلق خلقه فريق في الجنة وهم المؤمنون وفريق في السعير وهم الكفار والله سبحانه وتعالى يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم فإن الله سبحانه وتعالى أخرج قابيل من صلب آدم عليه السلام وهو نبي وكان قابيل كافراً وأخرج إبراهيم من صلب آزر وهو نبي وكان آزر كافراً فكذلك أخرج كنعان وهو كافر من صلب نوح وهو نبي فهو المتصرف في خلقه كيف يشاء. فإن قلت: فعلى هذا كيف ناداه نوح فقال: اركب معنا وأسأل له النجاة مع قوله رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً قلت: قد ذكر بعضهم أن نوحاً عليه الصلاة والسلام لم يعلم بكون ابنه كان كافراً فلذلك ناداه وعلى تقدير أنه يعلم كفره إنما حمله على أن ناداه رقة لأبوة ولعله إذا رأى تلك الأهوال أن يسلم فينجيه الله بذلك من الغرق فأجابه الله عز وجل بقوله إنه ليس من أهلك يعني أنه ليس من أهل دينك لأن أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما. ولما حكمت الشريعة برفع حكم النسب في كثير من الأحكام بين المسلم والكافر قال الله سبحانه وتعالى لنوح: إنه ليس من أهلك {إنه عمل غير صالح} قرأ الكسائي ويعقوب: عَمِلَ بكسر الميم وفتح اللام غير بفتح الراء على عود الفعل على الابن ومعناه أنه عمل الشرك والكفر والتكذيب وكل هذا غير صالح، وقرأ الباقون من القراء: عمَلٌ بفتح الميم ورفع اللام مع التنوين وغير بضم الراء ومعناه إن سؤالك إياي أن أنجيه من الغرق عمل غير صالح لأن طلب نجاة الكفار بعد ما حكم عليه بالهلاك بعيد فلهذا قال سحبانه وتعالى: {إنه عمل غير صالح} ويجوز أن يعود الضمير في إنه على ابن نوح أيضاً ويكون التقدير على هذه القراءة إن ابنك ذو عمل أو صاحب عمل غير صالح فحذف المضاف كما قالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار. قال الواحدي، وهذا قول أبي إسحاق يعني الزجاج وأبي بكر بن الأنباري وأبي علي الفارسي قال أبو علي: ويجوز أن يكون ابن نوح عمل عملاً غير صالح فجعلت نفسه ذلك العمل لكثرة ذلك منه، كما يقال الشعر زهير والعلم فلان إذا كثر منه فعلى هذا لا حذف {فلا تسألن ما ليس لك به علم} وذلك أن نوحاً عليه السلام سأل ربه إنجاء ولده م نالغرق وهو من كمال شفقة الوالد على ولده وهو لا يعلم أن ذلك محظور لإصرار ولده على الكفر فهناه الله سبحانه وتعالى عن مثل هذه المسألة وأعلمه أن ذلك لا يجوز فكان المعنى فلا تسألن ما ليس لك به علم بجواز مسألته {إني أعظك} يعني أنهاك {أن تكون من الجاهلين} يعني لمثل هذا السؤال.
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50)} {قال} يعني: قال نوح {رب إني أعوذ بك} يعني: ألجأ إليك وأعتذر إليك {أن أسألك ما ليس لي به علم} يعني: إنك أنت علام الغيوب وأنا لا أعلم ما غاب عني فأعتذر إليك من مسألتي ما ليس لي به علم {وإلا تغفر لي} يعني: جهلي وإقدامي على سؤال ما ليس لي به علم {وترحمني} يعني برحمتك التي وسعت كل شيء {أكن من الخاسرين} (فصل وقد استدل بهذه الآيات من لا يرى عصمة الأنبياء) وبيانه أن قوله إنه عمل غير صالح المراد منه السؤال وهو محظور فلهذا نهاه عنه بقوله فلا تسألن ما ليس لك به علم، وقوله سبحانه وتعالى: {إني أعظك أن تكون من الجاهلين} يدل على أن ذلك السؤال كان جهلاً ففيه زجر وتهديد وطلب المغفرة والرحمة له يدل على صدور الذنب منه. والجواب أن الله عز وجل كان قد وعد نوحاً عليه السلام بأن ينجيه وأهله فأخذ نوح ظاهر اللفظ واتبع التأويل بمقتضى هذا الظاهر ولم يعلم ما غاب عنه ولم يشك في وعد الله سبحانه وتعالى فأقدم على هذا السؤال لهذا السبب فعاتبه الله عز وجل على سؤاله ما ليس له به علم وبين له أنه ليس من أهله الذي وعده بنجاتهم لكفره وعمله الذي هو غير صالح وأعلمه الله سبحانه وتعالى أنه مغرق مع الذين ظلموا ونهاه عن مخاطبته فيهم فأشفق نوح من إقدامه على سؤال ربه فيما لم يؤذن له فيه فخاف نوح من ذلك الهلاك فلجأ إلى ربه عز وجل وخشع له وعاذ به وسأل المغفرة والرحمة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب ومعصية من نوح عليه السلام سوى تأويله وإقدامه على سؤال ما لم يؤذن له فيه وهذا ليس بذنب ولا معصية والله أعلم. قوله سبحانه وتعالى: {قيل يا نوح اهبط} أي انزل من السفينة أو من الجبل إلى الأرض {بسلام} أي بأمن وسلامة {منا وبركات عليك} البركة هي ثبوت الخير ونماؤه وزيادته، وقيل: المراد بالبركة هنا أن الله سبحانه وتعالى جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة فكل العالم من ذرية أولاده الثلاثة ولم يعقب من كان معه في السفينة غيرهم {وعلى أمم ممن معك} يعني: وعلى ذرية أمم ممن كانوا معك في السفينة، والمعنى وبركات عليك وعلى قرون تجيء من بعدك من ذرية أولادك وهم المؤمنون. قال محمد بن كعب القرظي: دخل في هذا كل مؤمن إلى يوم القيامة {وأمم سنمتعهم} هذا ابتداء كلام أي وأمم كافرة يحدثون بعدك سنمتعهم يعني في الدنيا إلى منتهى آجالهم {ثم يمسهم منا عذاب أليم} يعني في الآخرة {تلك من أنباء الغيب} هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم يعني أن هذه القصة التي أخبرناك يا محمد من قصة نوح وخبر قومه من أنباء الغيب يعني من أخبار الغيب {نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} يعني من قبل نزول القرآن عليك. فإن قلت إن قصة نوح كانت مشهورة معروفة في العالم فكيف قال ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا. قلت: يحتمل أن يكون كانوا يعلمونها مجملة فنزل القرآن بتفصيلها وبيانها. وجواب آخر وهو أنه صلى الله عليه وسلم كان أميّاً لم يقرأ الكتب المتقدمة ولم يعلمها وكذلك كانت أمته فصح قوله ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل نزول القرآن بها {فاصبر} يا محمد على أذى مشركي قومك كما صبر نوح على أذى قومه {إن العاقبة} يعني النصر والظفر على الأعداء والفوز بالسعادة الأخروية يعني للمؤمنين. قوله عز وجل: {وإلى عاد} يعني وأرسلنا إلى عاد {أخاهم هوداً} يعني أخاهم في النسب لا في الدين {قال يا قوم اعبدوا الله} يعني وحدوا الله ولا تشركوا معه شيئاً في العبادة {ما لكم من إله غيره} يعني أنه تعالى هو إلهكم لا هذه الأصنام التي تعبدونها فإنها حجارة لا تضر ولا تنفع {إن أنتم إلا مفترون} يعني ما أنتم إلا كاذبون في عبادتكم غيره.
{يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} {يا قوم لا أسألكم عليه} يعني على تبليغ الرسالة {أجراً} يعني جعلاً آخذه منكم {إن أجري} يعني ما ثوابي {إلا على الذي فطرني} يعني: خلقني فإنه هو الذي رزقني في الدنيا ويثيبني في الآخرة {أفلا تعقلون} يعني فتتعظون {ويا قوم استغفروا ربكم} أي آمنوا به فالاستغفار هنا بمعنى الإيمان لأنه هو المطلوب أولاً {ثم توبوا إليه} يعني من شرككم وعبادتكم غيره ومن سالف ذنوبكم {يرسل السماء عليكم مدراراً} يعني: ينزل المطر عليكم متتابعاً مرة بعد مرة في أوقات الحاجة إليه وذلك أن بلادهم كانت مخصبة كثيرة الخير والنعم فأمسك الله عنهم المطر مدة ثلاث سنين فأجدبت بلادهم وقحطت بسبب كفرهم فأخبرهم هود عليه السلام أنهم إن آمنوا بالله وصدقوه أرسل الله إليهم المطر فأحيا به بلادهم كما كانت أول مرة {ويزدكم قوة إلى قوتكم} يعني شدة مع شدتكم، وقيل: معناه أنكم إن آمنتم يقوِّكم بالأموال والأولاد وذلك أنه سبحانه وتعالى أعقم أرحام نسائهم فلم تلد فقال لهم هود عليه السلام إن آمنتم أرسل الله المطر فتزدادون مالاً ويعيد أرحام الأمهات إلى ما كانت عليه فيلدن فتزدادون قوة بالأموال والأولاد وقيل: تزدادون قوة في الدين إلى قوة الأبدان {ولا تتولوا مجرمين} يعني ولا تعرضوا عن قبول قولي ونصحي حال كونكم مشركين {قالوا يا هود ما جئتنا ببينة} أي ببرهان وحجة واضحة على صحة ما تقول {وما نحن بتاركي ألهتنا عن قولك} يعني وما نترك عبادة آلهتنا لأجل قولك {وما نحن لك بمؤمنين} يعني بمصدقين {إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء} يعني إنك يا هود لست تتعاطى ما تتعاطاه من مخالفتنا وسب آلهتنا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بخبل وجنون لأنك سببتهم فانتقموا منك بذلك ولا نحمل أمرك إلا على هذا {قال} يعني قال هود مجيباً لهم {إني أشهد الله} يعني على نفس واشهدوا يعني واشهدوا أنتم أيضاً علي: {أني بريء مما تشركون من دونه} يعني هذه الأصنام التي كانوا يعبدونها {فكيدوني جميعاً} يعني احتالوا في كيدي وضري أنتم وأصنامكم التي تعتقدون أنها تضر وتنفع فإنها لا تضر ولا تنفع {ثم لا تنظرون} يعني ثم لا تمهلون وهذا فيه معجزة عظيمة لهود عليه السلام وذلك أنه كان وحيداً في قومه فما قال لهم هذه المقالة ولم يهبهم ولم يخف منهم مع ما هم فيه من الكفر والجبروت إلا لثقته بالله عز وجل وتوكله عليه وهو قوله تعالى: {إني توكلت على الله ربي وربكم} يعني أنه فوض مره إلى الله واعتمد عليه {ما من دابة} يعني تدب على الأرض ويدخل في هذا جميع بني آدم والحيوان لأنهم يدبون على الأرض {إلا هو آخذ بناصيتها} يعني أنه تعالى هو مالكها والقادر عليها وهو يقهرها لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، والناصية مقدم الرأس وسمي الشعر الذي عليه ناصية للمجاورة قيل: إنما خصَّ الناصية بالذكر لأن العرب تستعمل ذلك كثيراً في كلامهم فإذا وصفوا إنساناً بالذلة مع غيره يقولون ناصية فلان بيد فلان وكانوا إذا أسروا أسيراً وأرادوا إطلاقه جزوا ناصيته ليمنوا عليه ويعتدوا بذلك فخراً عليه فخاطبهم الله سبحانه وتعالى بما يعرفون من كلامهم {إن ربي على صراط مستقيم} يعني إن ربي وإن كان قادراً وأنتم في قبضته كالعبد الذليل فإنه سبحانه وتعالى لا يظلمكم ولا يعمل إلا بالإحسان والإنصاف والعدل فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بعصيانه، وقيل معناه أن دين ربي هو الصراط المستقيم وقيل فيه إضمار تقديره إن ربي يحملكم على صراط مستقيم.
|